دلفت «ماليسا أكزار» إلى عملها بكافتيريا «لوبي» بولاية تكساس، وألقت تحية على زملائها في العمل وهي تضع حقيبتها جانبا وترتدي مريلتها. ثم حملت النوتة والقلم وبدأت جولتها ما بين طاولات الكافتيريا. ابتسامة مشرقة معلقة فوق شفتيها وهي تتلقى الطلبات، تهرع إلى المطبخ وتعود محملة بالأطباق وأكواب من العصائر أو المياه. وفتح باب الكافتيريا ليدخل منه «والتر سواردس». نظرت ماليسا إلى ساعتها وابتسمت… فها هو والتر يلج إلى الكافتيريا في ذات الميعاد الذي تعود عليه. والتر رجل في التاسعة والثمانين من العمر وجندي سابق في الجيش الأميركي… شارك والتر في الحرب العالمية الثانية، وكان صعبا وصارما.جلس والتر، كعادته، في طاولته التي ظل يحتل مقعدها خلال السبع سنوات الماضية. وكالعادة أيضا تهربت منه جميع الجرسونات ما عدا ماليسا. فقد كان كثير التذمر ولا يعجبه «العجب». يأتون له بالطعام فيصيح فيهم بأن الأكل ليس حارا كما ينبغي، ويحتارون فيم يفعلون. فكل طعام له درجة حرارة معينة تقدم بها، وإذا ما ارتفعت تعرض الزبون لحرق في اللسان أو الشفاه. ويخاف أصحاب الكافتيريا من القضايا التي يمكن أن يرفعها عليهم الزبون إذا ما تضرر من أكل أو شرب. ويغضب والتر، وتقترب منه ماليسا وهي تحاول أن تشرح له الموقف بابتسامة ولين، ولكن والتر ليس راضيا بل مصراً على طلبه. وتحاول ماليسا إرضاءه بسحب الطبق من أمامه وتسخين طعامه، ثم تعيده له مرة أخرى محذرة إياه بأن الطعام قد يحرق شفتيه. ولا يبالي والتر ويلتهم طبقة في دقائق معدودة.ولا ينتهي التعامل مع والتر بتسخين طبقه، فقد يهتف مناديا بقهوته. وإذا ما تأخرت عنه ماليسا لثانية يرفع صوته عاليا، بل ولا يتوانى أحيانا في توجيه السباب لها. وتأتي ماليسا وهي لا تزال مبتسمة مناولة له قهوته التي تعودت أن تكون أكثر «سخانة» من طعامه. ويتناول والتر الكوب من يدها، وبدلا عن كلمات شكرها يظل «يطنطن» بأن قهوته تأخرت. ويطلب كوبا من المياه من ماليسا ويشيعها باللعنات … وإذا ما توانت يحيطها باللعنات وهي لا تنبس ببنت شفة. وظلت ماليسا تخدم والتر بإخلاص في خلال السبع سنوات، وهي تعامله برفق ولا ترد على إساءاته المتعددة وسبابه ولعناته، بل تقابلها بابتسامة من جانبها.وجاء اليوم الذي لم يظهر فيه والتر في الكافتيريا، نظرت ماليسا إلى ساعاتها وهي مستعجبة. أنها لم تره في موعده المضروب، وفكرت أنه لربما تأخر. ولكن والتر لم يظهر لخمسة أشهر كاملة، ظنت فيها ماليسا أن والتر ارتاد كافتيريا أخرى، حتى أتى ذلك اليوم الذي دلف فيه أحد الأشخاص إلى الكافتيريا. كان ذلك الشخص يرتدي بدلة كاملة وربطة عنق، ويحمل في يده شنطة سوداء صغيرة، وبدلا من أن يجلس على طاولة من الطاولات ليطلب الطعام، طالب برؤية ماليسا، وصافح يدها معرفا نفسه بمحامي الأستاذ والتر. وأخبر المحامي ماليسا أن والتر قد فارق الحياة منذ شهر يوليو، إلا أن وصيته لم تفتح إلا أخيراً. وقد ترك فيها لماليسا خمسين ألف دولار، بالإضافة إلى عربة في حالة ممتازة. وترقرقت عينا مليسا بالدموع وقالت «أكاد لا أصدق، أنه رجل كريم». حقيقة، أن الحسنة تتبعها الحسنة، والكلمة الطيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.