مساء الإثنين, الثامن و العشرين من مايو, عيد المحاربين بأمريكا. المحال مغلقة و الطرقات خالية إلا من بعض السيارات و مارة أقلة يلوحون في الأفق هنا أو هناك. بحثت عنها, امرأة مسنة مقعدة دوما ما أراها ملتزمة مكانها على تقاطع أحد الطرق و أنا أمر مسرعة, و دوما ما تكون رافعة للافته تنادي فيها بنهاية الحرب.كم وددت لو وقفت يوماً و سألتها, لماذا أنت كل يوم هنا؟ من قتل لك في الحرب أومن فقدت؟ أهو أبن؟ زوج؟ أو لربما شخص ما جرح! يا لهذه الدنيا, لمّ لا تبطئ قليلا لتمهلني بعض لحظات لأتحدث معها.
و دوماً ما تذكرني تلك امرأة الصامتة امرأة أخرى, رأيتها مرة في التلفاز و الوكالات تغطي أخبارها. اسمها (سيندي شيهانس). قتل ابنها (كاسي) ذو الأربعة و العشرين عاما بالعراق في أبريل 2004 و معه سبعة آخرون, و صدمت سيندي بالخبر مثلها مثل أمهات كثر. و اختارت الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي يقضي إجازة بمزرعته الواقعة بولاية تكساس و خيمت أمام منزله لشهر كامل مطالبة بلقاء الرئيس على حدة لتطرح عليه بعض من الأسئلة. و تعاطف معها الرأي العام و صارت خبراً يوميا في أغلب القنوات. و بدأ البحث عمن هي سيندي؟ و من هو ابنها؟ و متى توفي؟ و ما هي مطالبها؟
و كانت سيدني ترد على تلكم الأسئلة بأن الرئيس الأمريكي قد قال إن الجنود الذين قتلوا في حرب العراق, و من ضمنهم ابنها, قد قتلوا من أجل تحقيق أهداف نبيلة و قالت: “أريد أن أعرف ما هي تلك الأسباب النبيلة التي من أجلها مات ابني؟” و تحدث السيناتور الجمهوري (جورج آلن) عن موقف سيدني و عبر عن رأيه قائلا “أعتقد أن من واجب الرئيس ملاقاة هذه الأم التعبة.” حتى انتهى الأمر بعقد البيت الأبيض إجتماعات منفردة للرئيس مع خمسة عشرة أسرة من أسر الذين فقدوا أحباءهم في العراق, و كانت من ضمنهم سيدني.
و تحدثت سيدني نفسها في مقابلة لها مع قناة (السي إن إن) الإخبارية عن لفائها بالرئيس. و قالت بمرارة “إنه لم يرد النظر في صورة كاسي, و كلما حاولنا أن نحدث الرئيس عن كاسي و أن نخبره أننا لكم نفتقده, كان يغير من الموضوع حتى لا نسترسل فيه.” و كونت سيدني بعدها منظمة لمناهضة الحرب و تنادي بسحب الجنود الأمريكيين من العراق بأسرع وقت, و طفقت تقول “لقد فقدنا نحن أبناءنا, فلماذا نريد أن نظل ساكنين حتى تفقد أسر أخرى أعضاء لها؟ لا بد لنا من السعي و العمل الحثيث.”
و هنا تكمن مأساة الحرب في نظري. فلم يمت في الحرب (خمسة آلاف رجل) فحسب, بل قتل مايكل و له أبن, و قتلت إيميلي و لها أخت, و قتل جاشوا و له أم, و فٌقدت كارولين و لها ابنة. إن أرقام القتلى و الجرحى و إحصاءات الحرب هي في حقيقتها أسماء لناس كانوا بيننا من لحم و دم و لهم أهل يحزنون عليهم و يبكون. أذكر أن قتلى العراق كانوا يذكرون كل يوم في الأنباء و لكن بلا سيرة أو اسم, حتى قررت قناة (إن بس سي) الامريكية أن تحيد عن ذاك المتبع, و أذاعت لأول مرة أسماء الجنود مصحوبة بصورهم و أعمارهم و توقف المارة. وحدق الجميع أمام شاشات التلفاز و تجمدوا.
ما فعلته قناة (إن بي سي) كان ببساطة محاولة لرسم واجهة إنسانية لقتلى ظلوا مجرد أرقام في ذهن المواطن الامريكي لفترة طويلة, و الإنسان بطبعه يتعاطف و بكل مشاعره مع مأساة بشر مثله متى ما خرجوا من قوقعة الإحصاء. فالقتلى و المشردون في دارفور ليسوا هم اثنين مليون فحسب, بل هم أناس لهم أسماء, و لكننا لا نزال نجهلها. لا نعرف فاطمة و متى فقدت ابنها و لم نر موسى و هو يهرب محاولا أن يحمي إبنته من الرصاص المتطائر. لا نعرف كيف فقد محمد صديقه و لا ندري كيف نتخيل زهرة و الدموع على خديها و لم نستطع أن نسمع قصتها. و لعل هذا دور الإعلام الحر, فالمعلومات التي تتوفر للمشاهد و المواطن العادي تجعله يشعر كما و أنه يعيش الحدث و يكون من خلاله فكرة واضحة عما يجري بأرض الواقع.