المكان: الطابق الثاني بأحد مباني جامعة أوماها نبراسكا حيث يتم تدريس مادة الخطابة الزمان: شتاء عام 1998، أول فصل دراسي ألتحق به بالجامعةالأستاذة تقف وسط الطلبة تنظر إلينا وتتحدّث، فكل فصل جديد يحمل معه مجموعة طلبة تكتشفهم، وتحاول في تلك اللحظات أن تنظر إلى أعيننا محاولة سبر أغوارنا. كنت أنظر إلى الأستاذة وأحاول أن اكتشفها في ذات الوقت، فهي أول أستاذة أمريكية أجلس في محراب فصلها متخوّفة من نظام التدريس وأصول المادة. يعتبر أول يوم دراسي بمثابة (التعارف) ما بين الطلبة والأستاذة، فحدثتنا الأستاذة عن نفسها وسألتنا عن اسمائنا وطابقتها بالقائمة التي في يدها، ثم بدأت تلقي محاضرة، ليست عن المخاطبة، ولكن عن توقعاتها منا نحن طلبتها الجدد.. الواجبات تُسلّم في ميعادها.. عدة امتحانات في خلال أربعة أشهر.. ولا يمكن أن نتغيّب في خلال الفصل الدراسي أكثر من ثلاث مرات لا رابع لها. وبدت لي تلك القاعدة غريبة وشديدة الصعوبة مقارنة بأيام (التسيب) التي تعودنا عليها في الجامعة السابقة. ومضت الأسابيع وأنا متابعة دروسي ودقيقة في ميعاد كل محاضرة حتى اقتربت أيام العيد.كان ذلك العيد هو أول عيد يمر عليَّ بدولة غير إسلامية لذلك كنت حريصة على صلاة العيد مع جماعة المسلمين. فحسبما كنت أسمع أن مراسم العيد تنتهي بإنتهاء مراسم الصلاة، فكل بعد ذلك يهرع لعمله أو مدرسته. ولكن ما العمل وميعاد صلاة العيد في ذات الوقت المخصص لمحاضرة الخطابة؟ ولأنني كنت خائفة من تجاوز ثلاثة أيام الغياب التي حددتها الأستاذة في أول يوم لها، قررت اخطارها بأنني لن أكون موجودة في ذلك اليوم بسبب العيد والصلاة. وتفاجأت وأنا أتحدّث مع الأستاذة في مكتبها بنظرة الحيرة التي تعلو وجهها، أي صلاة؟ وأي عيد تقصدين؟ وبدأت بالشرح، إنني مسلمة ولا بد لي من أداء صلاة العيد، فهي تجُب ما بينهما. وبعد فترة من مدّ وجذب ومحاولات فاشلة لإيصال المعلومة وما بين دهشة أستاذتي، والتي أكاد أجزم أنها تسمع لأول مرة عن إسلام وأعياد، وجدتها تهز رأسها بحيرة وتحرّك كتفيها غير مبالية وهي تقول:-غادة، كل ما أعرفه أنك لن تكوني موجودة بالحصة وذلك لأسباب تتعلّق بديانتك وهذا عذر مقبول عندي.وتركتها وأنا أشعر أنها لا تعرفني أو تدرك خلفيتي المعقّدة وأدركت أنني سأحتاج لوقت كثير كي أتعوّد على شكل جديد من أشكال الغربة..وانتهى ذلك الكورس على خير وبدأنا نصف السنة الجديد.. وأخذت فصلاً درّسته تلك الأستاذة أيضاً. وبدأت أتعرّف عليها أكثر وعرفتني هي عن قرب، فقد أتاحت لنا نشاطات الجامعة المتعددة فرصاً للتواصل والنقاش عن مجتمعاتنا وثقافاتنا ودياناتنا المختلفة. ثم بدأت السنة الثانية وذات الأستاذة لا تزال تصاحبني في مسيرتي الدراسية، كان الكورس عن كيفية التواصل داخل المجموعة قليلة العدد وكان في جدولنا، المقرر منذ عدة أشهر، يوم نشاهد فيه فيلماً ذا علاقة بموضوع الحصة. واقترحت الأستاذة أن نشترك جميعاً في يوم الفيلم لشراء بيتزا نتناولها في الصف بينما نشاهد الفيلم. وقبيل أسبوعين من الوقت المخصص للفيلم خاطبت الأستاذة الفصل قائلة:-ما رأيكم أن نقوم بعرض الفيلم الأسبوع المقبل بدلاً من الانتظار حتى موعده؟ ففي الأسبوع الذي يليه يبدأ رمضان وغادة ستكون صائمة! لا أريد أن يفوتها التواصل الاجتماعي للفصل وأتمنى أن تستطيع مشاركتنا.ولاقى اقتراحها قبولاً من الطلبة وتم تغيير خطة الفصل المقررة منذ فترة طويله من أجلي فقط. ونظرتُ إلى أستاذتي بامتنان.. فمنذ عام فقط كنت أحاول أن أشرح لها مَنْ أنا ومِنْ أي بقاع الدنيا أتيت، وها هي اليوم تعرفني بل وتدرك رمضان وميعاد صيامي بدون كلمة مني.. وعلمتني هي درساً أبعد من الخطابة أو فنون التواصل.