مدينة أوماها مدينة صغيرة بولاية نبراسكا التي تقع في منتصف خارطة الولايات المتحدة الأميركية، تحتل الجامعة جزءاً لا بأس به من المدينة ويملأ الطلبة طرقاتها، وكنت أنا منهم، وقع اختيارنا على مدينة أوماها لأسباب كثيرة، أهمها الأمان ونسبة الجريمة المتدنية بها. لم يسمع بأوماها الكثير من أصدقائي قبل أن أرتحل إليها، فكانوا يسألونني «إنتي حتكوني وين في أميركا؟» وأجيبهم «أوماها». فيصلني الرد سريعاً وفي غضون لحظات «مافي حاجة نسمها أوماها.. والله دي ألفتيها في مكانك دا.. يكون قصدك أوكلاهوما». ولم يكن السودانيون الوحيدون في هذا الأمر، فحتى الأميركيون كانوا يحتارون في الذي (ودانا) لأوماها، تلك المدينة المغمورة النائية. قال لنا أحد الأميركيين ساخراً منا: «مررت بسيارتي عبر أوماها من قبل، ولم أرّ سوى بضع شجرات متناثرة هنا وهناك وكثير من البقر»، مشيراً بذلك إلى طبيعة البلاد الريفية.وقضيت بين ربوع أوماها ثلاث سنوات درست خلالهن في جامعتها حتى تخرّجت بشهادة في الصحافة والإعلام. وكنت أعمل بمجمع تجاري أهرع إليه بعد نهاية اليوم الدراسي حتى أغلق أبوابه في التاسعة مساءً وأقوم (جارية) لمنزلي بعدها كي أستذكر دروسي وأتم واجباتي وأستعد لامتحاناتي، كونت بأوماها صداقات عديدة، وما زلت على صلة ببعض معلماتي، فكل من التقيت به فيها كان صافياً، بسيطاً، ونقياً، وأحببت أوماها بالرغم من قلة حجمها وشح النشاطات التي يتاح لنا نحن الرافدين من الثقافات المختلفة المشاركة فيها والاستمتاع بها. كانت صديقتي المقرّبة تمني نفسها بيوم تفارق فيه أوماها بلا عودة، فقد سئمت منها. والحق يقال إن المدينة تخضع لهدوء وسكون عجيبين. وكنت أنا متصالحة مع بذلك السكون وراضخة له، وتقول لي صديقتي مغتاظة مني «أنت أكيد ما طبيعية!» وأضحك عليها.. وشاءت الظروف أن أتزوّج وأفارق أوماها الوديعة وأترك صديقتي خلفي (تلعن) هدوء أوماها وسكينتها لخمس سنوات أخر.وأتى يوم الأربعاء، الخامس من ديسمبر 2007، ليكون التاريخ الذي أفسد أجواء أوماها الطيبة، وهو يوم عبوس سيخلّد في ذاكرة المدينة الهادئة، فقد قام شاب في التاسعة عشرة من عمره واسمه (روبرت هاوكينس) بالولوج إلى ذات المجمّع التجاري (ويست رودس) الذي كنت أعمل به، بل وذات المحل (فان ماور) الذي كنت أقضي فيه بعض ليلي وكثيراً من نهاري. وقام روبرت باستخدام المصعد الكهربائي، واستقله حتى الدور الثالث للمحل وفي يده بندقية، وما أن بدأت أبواب المصعد تنفتح حتى (انفتحت) بندقية روبرت فأطلق الرصاص وأصاب ثمانية أشخاص داخل المحل أرداهم قتلى قبل أن يدير المسدس نحو نفسه ويطلق الطلقة الأخيرة التي رقد بعدها على الأرض بلا حراك.وفي ثانية تغيّر مجتمع أوماها الآمن.. تجمّعت سيارات الشرطة والإسعاف أمام المجمّع التجاري وصارت المدينة والمجمع التجاري، مراتع شبابي، على لسان نشرات الأخبار، وأصبح روبرت حديث الجميع. وذكرت الأنباء أن روبرت يعاني من الاكتئاب وتعرض لهزات نفسية شديدة مثل طرده من المدرسة الثانوية التي كان يدرس بها وفصله من محل (ماكدونالدز) في ذات اليوم الذي أطلق فيه الرصاص بسبب سرقته لمبلغ سبعة عشر دولاراً. وخاض الإعلام في مشاكل روبرت الأسرية والعاطفية التي ساقته إلى أن يقرر أن موت الجماعة عرس. وترك روبرت لوالدته رسالة يعتذر لها فيها مقدّماً على الانتحار ويقول لها «من بعد اليوم سأكون شهيراً، وسأستطيع أن أغادركم بطريقة فريدة». كتبت صحيفة المدينة الرئيسية (أوماها هارولد) في المانشيت الرئيسي معبّرة عن صدمتها الكبرى بأربع كلمات فقط «لقد ذقنا الكأس المر!».
ويا كافي البلا وحايد المحن! حتى أنت يا أوماها.