كثيرا ما يجد محدثيني فرصة لإغاظتي عندما يعرفون أنني أكبر من الأخت والأخوين، فتكون أولى كلماتهم بعدها،
-“بالله، يعني أنتي البِكِر؟” وسرعان ما يردفون، ولمحة الخبث تكاد تطل من أعينهم
-“علشان كده؟”
ولا أجد ما أقول سوي أن احلف بالله إنني (ما عويرة)، ولكن بلا فائدة، ولا أدري إن كان ذلك من استمرار المغايظة ومواصلتها، أم هي اقتناعا من محدثيني بحقيقة (عوارتي) بسبب كوني البكر في الأسرة. ولم أكن أدري أن سيأتي الوقت الذي أرد على تلك المغايظات لأثبت لكل مع أغاظني يوما،وبالدليل العلمي، على “أنا البكر، إذن أنا ذكية”.
نشرت دراسة قامت بها مجموعة من الباحثين النرويجيين اهتموا بمعرفة ما إذا كان الطفل الأول أكثر إخوته وأخوانه ذكاءا أم أقلهم. بدأ البحث بقياس نسبة الذكاء في 241,310 رجل نرويجي ممن كانوا قد استدعوا للمشاركة في الجيش ما بين الأعوام 1967-1976, وكان يبلغ عمر المشاركين وقتها ما بين الثامنة عشر إلى التاسعة عشرة عاما. ووجدت الدراسة أن معدل نسب الذكاء لدى الرجال الذين كانوا أكبر أبناء الأسرة قد بلغت 103.2, بينما وجدت الدراسة أن الرجال الذين كان ترتيبهم الثاني بلغ معدل نسب الذكاء 101.2.
وأوضحت الدراسة أيضا أن الرجال الذين كان ترتيبهم الثاني في الأسرة، إلا أن الطفل الذي سبقهم قد توفي صغيرا، قد بلغت نسبة معدل ذكائهم أعلى من نسبة أولئك الذين كان ترتيبهم الثاني، فقد بلغ معدل ذكائهم 102.9, مما يعني، كما ذكرت النتائج النهائية للبحث، أن الطفل الأكبر هو الأكثر ذكاء ليس من ناحية المولد والترتيب وإنما من ناحية النشأة الاجتماعية. والدليل على ذلك أن الرجال الذين كان ترتيبهم الثالث في أسرهم قد بلغ معدل ذكائهم 100, إلا أن نفس أولئك الرجال إن كان الطفل الأول أو الثاني الذي يكبرهم قد توفي صغيرا فإن نسبة ذكائهم وقتها تعادل نسبة ذكاء من كان ترتيبه الثاني في الأسرة.
وذكر تقرير لقناة (أن بي سي) الأمريكية عن هذه الدراسة أن النقاش حول ذكاء الإبن الكبير من عدمه قد ظل مشتعلا ومثار للنقاش بين الباحثن منذ عام 1874، عندما قام السيد (فرانسيس جالتون) بتقديم تقرير يذكر فيه أن معظم الذين يتقلدون المناصب الرفيعة والذين يتمتعون بالمراكز العليا معظمهم جاء ترتيبهم الأول، من حيث المولد أو النشأة، في أسرهم، وأتت اليوم هذه الدراسة لتثبث صدق الملاحظة التي ذهب إليها السير فرانسيس منذ القرن التاسع عشر. وقال (فرانك سولواي) الباحث بمركز دراسات الشخصية والحياة الاجتماعية بجامعة بيركلي الأمريكية، أن السبب لربما يعزي إلى أن الطفل الأكبر يساعد أحيانا الأب أو الأم في تعليم الأبناء الذين يصغروه، مما يعزز معلوماته ويزيد ثقته بنفسه، بينما أصغر الأبناء لا يجد نفس الفرص التي أتيحت لإخوته الذين يكبرونه.
وتذهب هذه الدراسة في اتجاه عكس ذلك السائد في المجتمع السوداني بأن (البكر عوير)، لربما بسبب التدليل الذي يتلقاه الطفل الأكبر في كل أسرة والاهتمام الخاص الذي توليه إليه الأم قبل مولد ذلك الذي يليه. ولكن المفارقة أن نفس ذلك الطفل الذي يوسم بـ (العوارة) في بدايات حياته، يصير هو عميد الأسرة وكبير البيت، والمسئول عنه متى ما كبر. وبالرغم من هذه الدراسة العملية قد تلت كثيرات قبلها، ولن تكون الأخيرة. وبالرغم من أن نتائجها التي توصلت لها قد أعتبرها كثير من المختصين أنها تلعب دورا في فهم الحياة الإنسانية ومراحل تطور العقل، إلا أن هذا لا يعني أن لكل قاعدة، إذا سلمنا بنتائج البحث لتكون هي القاعدة، شواذ. فلم يركز البحث على المسئولية الفردية في التحصيل العلمي وفي القراءة والإطلاع، ولكن لا أخفيكم القول أنني (بصفتي البكر)، سعيدة، جدا، بنتائج البحث!