بنهاية المرحلة الابتدائية، انتهت مرحلة مهمة من مراحل حياتي. وشهدت مرحلة الدراسة المتوسطة بدايات فصل من أبواب عمري لم تنته حتى لحظتي هذه. ففي أول عام تطأ أقدامي فيه مدرسة الأميرية بحري «1» المتوسطة للبنات، كان والدي معتقلاً بسجن كوبر، وكنت أنا طالبة جديدة بالمدرسة أرتدي الزى البني وأضع على رأسي تلك الطرحة البيضاء. وعُرفت في المدرسة جميعها بالفتاة المعتقل أبوها وإن لم ألحظ تغييرا في المعاملة من قبل زميلاتي ومعلماتي، بل كن طيبات ويعاملنني كما جميع الطالبات.كانت الأستاذة فائزة نقد هي مديرة مدرسة الأميرية وقتها. كنت أراها بثوبها الأبيض الناصع وهي تمشي بقوة وثبات بين طرقات المدرسة ودروبها، «فاردة» كتفيها ورافعة رأسها شامخة. ولم أكن أهابها. بل كنت أشعر بكثير من ود وتقدير لها، فقد كانت لطوفا حنونا نحوي. تناديني حالما تراني «غادة، مشيتي زيارة لأبوك الأسبوع ده؟» وتتواتر الأسئلة التي تخفف عني الكثير من المشاعر المتضاربة التي كانت تجيش في صدري وتعترم أيامها، وكانت دوما ما تختم حديثها بأخيها الأستاذ محمد إبراهيم نقد، وهي تقول «والله هدي أنا، أخوي ما قادرة أطمئن عليه وما عارفاهو حي ولا ميت». وتمضي بعد أن تشد من أزري بكلمات قويات، وتعضد بهن من روحي الحائرة التي لم يكن وعيها يزيد بأكثر من مجلات ميكي وسمير وألغاز رجل المستحيل، وإن بدأت تحل مكانهم ثلاثية نجيب محفوظ وروائع يوسف السباعي.خلال امتحانات نصف السنة وأنا بالصف الثاني من المرحلة المتوسطة، كانت أحداث كثيرة دائرة.. زواج ابن عمة لي، ألم في ضرسي أضطرني لاقتلاعه أيام الامتحانات، والأَمَرَّ من كل هذا وذاك كان نقل والدي من معتقله بسجن كوبر إلى سجن كسلا. وشعرت بعدم رغبة في خوض تلك الامتحانات، فقد كنت أضع قلمي في نصف الامتحان أحيانا، وأسند رأسي على درج المكتبة وكنت، حقيقة، زاهدة فيها. وظهرت نتيجة نصف العام، وكنت في انتظار والدتي آخر اليوم في مكتب أستاذتي الفاضلة فائزة. وسألت الوالدة عن النتيجة وأنا واضعة رأسي في الأرض لا أستطيع مواجهتها. وناولتها النتيجة «الثامنة عشرة، مشترك». وتنهدت الوالدة حزينة وهر تردد «يا خسارة يا غادة»..!! وأنا لا أدري ما أفعل. تناولت الموقف مني أستاذة فائزة ووجدتها تقول لوالدتي «معليش يا سعاد، الظروف المرت بيها غادة برضو ما هينة.» ونظرت إليَّ، حاسمة الموقف، «خلاص يا غادة، شدي حيلك ونشوف نتيجتك في آخر السنة.» وتركت مكتبها خجلى من والديَّ وشاعرة بكثير من عرفان لأستاذتي.مرت الأيام وبدأت أستذكر مبكرا لامتحانات نهاية العام. وكنت أعرف أن العبء الملقى عليَّ مضاعف، فدرجات نصف العام تضاف على آخره لتستخلص النتيجة النهائية. وبدأت أقرأ واستذكر دروسي غير عابئة بظروفي التي كانت تتلون وتتغير بمرور الساعة. ويأتي آخر اليوم الدراسي وأجلس وصديقاتي تحت نافذة أستاذة فائزة وتنادينا أحيانا وتناولنا «القروش» لشراء فيمتو لضيف لها في المكتب، وأهرع إلى «الدكان» مع احدى الصديقات وندخل مكتب ست فائزة حاملين «قزايز» الفيمتو ونناولهم لضيوفها. وتترك لنا أستاذة فائزة باقي «القروش» لأدعو نفسي وصديقتي على قزازة فيمتو.وأتى يوم توزيع النتائج، وكانت أسماء العشرة الأوائل من كل صف تذاع في طابور الصباح، وتناولهن الشهادة مديرة المدرسة، أستاذة فائزة شخصيا. ومضت أسماء السنة الأولى، ثم بدأت أسماء فصلي… الثامنة… التاسعة… وبدأت أفقد الأمل… ثم سمعتها تنادي «العاشرة، غادة عبد العزيز خالد». وحضرت لأستلم شهادتي منها. فشدت علي يدي بقوة قائلة وهي مبتسمة «جدعة»..!! وتركتها ولا يزال إحساس الفرحة بفخرها يصاحبني. وتركت السودان في إجازة صيف 1991م، وحتى اليوم لم أسمع صوت استاذة فائزة مرة أخرى.. لم أشكرها أو حتى التقيها.
ويا أستاذة فائزة.. شكرا… ونفسي في قزازة فيمتو..!!